خطبة الجمعة : نَهْرُ النِّيلِ… نِعْمَةٌ مِنَ الجَنَّةِ وَرِزْقٌ مِصْرِيٌّ مُقَدَّس ، د. أحمد رمضان
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 7 صفر 1447هـ، الموافق 1 أغسطس 2025م

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : نَهْرُ النِّيلِ… نِعْمَةٌ مِنَ الجَنَّةِ وَرِزْقٌ مِصْرِيٌّ مُقَدَّس ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 7 صفر 1447هـ، الموافق 1. أغسطس 2025م.
-عناصر خطبة الجمعة القادمة 1 أغسطس 2025م بعنوان : نَهْرُ النِّيلِ… نِعْمَةٌ مِنَ الجَنَّةِ وَرِزْقٌ مِصْرِيٌّ مُقَدَّس ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: نَهْرُ النِّيلِ فِي أَصْلِ الخَلْقِ وَنَصِّ الشَّرْعِ
العُنْصُرُ الثَّانِي: فَضَائِلُ النِّيلِ التَّارِيخِيَّةُ وَمَكَانَتُهُ فِي التُّرَاثِ الإِسْلَامِيِّ
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: دُرُوسٌ وَعِبَرٌ فِي فِقْهِ التَّعَامُلِ مَعَ نِعْمَةِ النِّيلِ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 1 أغسطس 2025م بعنوان : نَهْرُ النِّيلِ… نِعْمَةٌ مِنَ الجَنَّةِ وَرِزْقٌ مِصْرِيٌّ مُقَدَّس إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
نَهْرُ النِّيلِ… نِعْمَةٌ مِنَ الجَنَّةِ وَرِزْقٌ مِصْرِيٌّ مُقَدَّس
7 صفر 1447هـ – 1 أغسطس 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَجْرَى الأَنْهَارَ بِقُدْرَتِهِ، وَفَجَّرَ الْعُيُونَ مِنَ الْجِبَالِ بِحِكْمَتِهِ، وَجَعَلَ النِّيلَ نِعْمَةً دَفَّاقَةً لِأَهْلِ مِصْرَ بِرَحْمَتِهِ، أَحْمَدُهُ – تَعَالَى – حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، دَاعِي النَّاسِ إِلَى مَا فِيهِ حَيَاتُهُمْ وَنَجَاتُهُمْ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ… نَفْتَتِحُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ الْمُبَارَكَةَ فِي ظِلِّ نِعْمَةٍ مِصْرِيَّةٍ كُبْرَى، وَآيَةٍ رَبَّانِيَّةٍ عُظْمَى، أَجْرَى بِهَا الْحَيَاةَ، إِنَّهُ: نَهْرُ النِّيلِ، ذَلِكَ الْعِرْقُ السَّائِلُ فِي جَسَدِ مِصْرَ، وَذَلِكَ الْفَيْضُ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي نُمُوِّ حَضَارَاتِهَا وَعِزِّ أَهْلِهَا، تَحْتَ الْعُنْوَانِ: “نَهْرُ النِّيلِ… نِعْمَةٌ مِنَ الجَنَّةِ وَرِزْقٌ مِصْرِيٌّ مُقَدَّس“
فِي ثلاثة عَنَاصِرَ:
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: نَهْرُ النِّيلِ فِي أَصْلِ الخَلْقِ وَنَصِّ الشَّرْعِ
العُنْصُرُ الثَّانِي: فَضَائِلُ النِّيلِ التَّارِيخِيَّةُ وَمَكَانَتُهُ فِي التُّرَاثِ الإِسْلَامِيِّ
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: دُرُوسٌ وَعِبَرٌ فِي فِقْهِ التَّعَامُلِ مَعَ نِعْمَةِ النِّيلِ
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: نَهْرُ النِّيلِ فِي أَصْلِ الخَلْقِ وَنَصِّ الشَّرْعِ
نَهْرُ النِّيلِ هو من أفضل أنهار الدنيا، لَيْسَ مَجْرًى مَائِيًّا فَقَط، بَلْ هُوَ ذِكْرٌ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الأَرْضِ، وَذِكْرٌ فِي السُّنَّةِ قَبْلَ أَنْ تَنْطِقَ بِهِ اللُّغَةُ.
فَقَدْ ثَبَتَ فِي “صَحِيحِ مُسْلِمٍ” عَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ: كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ”. رواه مسلم (رقم 2839).
وَفِي حديث آخر صَحِيحٌ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: “رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ، نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ…” رواه البخاري (رقم 3207)، ومسلم (رقم 164).
فَإِذَا كَانَتِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ قَدْ جَعَلَتْ النِّيلَ نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ، فَهَذَا أَشْرَفُ ذِكْرٍ، وَأَجَلُّ قَدْرٍ، وَأَصْدَقُ شَاهِدٍ عَلَى مَكَانَتِهِ عِنْدَ اللهِ سُبْحَانَهُ.
وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ – فِي شَرْحِهِ لِـ “صَحِيحِ مُسْلِمٍ”: “هَذِهِ الْأَنْهَارُ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ أَصْلُهَا مِنْهَا، ثُمَّ سَرَتْ إِلَى الْأَرْضِ فِي مَجَارٍ يَعْلَمُهَا اللهُ“ المنهاج شرح صحيح مسلم، (جـ17، صـ170).
فَهُوَ نَهْرٌ مُبَارَكٌ، وَهَبَهُ اللهُ لِهَذِهِ الْبِقَاعِ الطَّيِّبَةِ، وَجَعَلَهُ لَهُمْ فَيضًا دَائِمًا، وَرَزْقًا مُتَدَفِّقًا، وَسَبَبًا لِعُمْرَانِ أَرْضِهِمْ.
وَقَالَ تَقِيُّ الدِّينِ المَقْرِيزِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ – فِي كِتَابِهِ” “المَوَاعِظِ وَالِاعْتِبَارِ: “وَإِنَّمَا خَصَّ اللهُ نِيلَ مِصْرَ بِالْبَرَكَةِ عَلَى سَائِرِ أَنْهَارِ الْعَالَمِ، فَهُوَ نَهْرٌ يُسْقِي مَنْ أَرَادَ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ، دُونَ أَنْ يَنْقُصَ أَوْ يَجِفَّ“ المواعظ والاعتبار (جـ1، صـ36).
فَسُبْحَانَ الَّذِي جَعَلَ فِي النِّيلِ سِرًّا، وَفِي مِصْرَ رِزْقًا، وَفِي آيَاتِهِ عِبْرَةً لِذِي قَلْبٍ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
فإِذَا كَانَ نَهْرُ النِّيلِ قَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي أَصَحِّ كُتُبِ السُّنَّةِ، فَقَدْ تَنَاوَلَهُ أَيْضًا أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ وَالعِلْمِ بِالتَّعْظِيمِ وَالبَيَانِ، فَيَا لَهَا مِنْ مَكَانَةٍ أُضِيفَتْ إِلَى مَكَانَةٍ، وَمَنْزِلَةٍ عَلَى مَنْزِلَةٍ.
قَالَ الإِمَامُ البَيْضَاوِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ – فِي تَفْسِيرِهِ “أَنْوَارِ التَّنْزِيلِ” عِنْدَ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ [الفُرْقَانِ: 53].
قَالَ: “قِيلَ: الْبَحْرُ الْعَذْبُ: النَّهْرُ الْعَظِيمُ كَالنِّيلِ، وَالْبَحْرُ الْأُجَاجُ: الْبَحْرُ الْكَبِيرُ” أنوار التنزيل، (جـ4، صـ128، ط. دار إحياء التراث العربي).
وَقَالَ النِّسَابُورِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ – فِي تَفْسِيرِهِ “غَرَائِبِ القُرْآنِ وَرَغَائِبِ الفُرْقَانِ”: “لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْرِ الْعَذْبِ: الْأَوْدِيَةُ الْعِظَامُ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَجَيْحُونَ“ غرائب القرآن، (جـ5، صـ250، ط. دار الكتب العلمية).
وَقَالَ العَلَّامَةُ الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ – رَحِمَهُ اللهُ – فِي “التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ”: “النَّهْرُ الْعَذْبُ الْكَبِيرُ – كَنَهْرِ النِّيلِ – آيَةٌ فِي إِجْرَائِهِ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ وَعِظَمِ مَنْفَعَتِهِ، وَلَا يَزَالُ النَّاسُ يَرْتَوُونَ مِنْهُ وَيَزْرَعُونَ، وَيَسْكُنُونَ عَلَى ضِفَّتَيْهِ” التحرير والتنوير، (جـ19، صـ208، ط. الدار التونسية).
فَإِذَا كَانَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ والعلماء قَدْ عَدُّوا النِّيلَ مِنَ الْأَنْهَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الرَّبِّ، وَعَجِيبِ تَدْبِيرِهِ، وَبَيَّنُوا فَضْلَهُ فِي سِيَاقِ الآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، فَكَيْفَ نُفَرِّطُ فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ؟!
إِنَّهُ نَهْرٌ تَحْتَ قُبَّةِ التَّقْدِيرِ، وَفَوْقَ صَفَائِحِ الْقُدْرَةِ، يُجْرِي اللهُ فِيهِ فَيْضَهُ، وَيُرِي النَّاسَ مِنْهُ آيَاتٍ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَفَكَّرَ.
العُنْصُرُ الثَّانِي: فَضَائِلُ النِّيلِ التَّارِيخِيَّةُ وَمَكَانَتُهُ فِي التُّرَاثِ الإِسْلَامِيِّ
إِنَّ نَهْرَ النِّيلِ لَمْ يَكُنْ فِي أَعْيُنِ السَّلَفِ وَالعُلَمَاءِ نَهْرًا كَسَائِرِ الأَنْهَارِ، بَلْ رَأَوْا فِيهِ آيَةً عَجِيبَةً مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَنِعْمَةً خَصَّ اللهُ بِهَا أَرْضَ مِصْرَ، حَتَّى غَدَا النِّيلُ عِنْدَهُمْ سَبَبًا لِفَضْلِ مِصْرَ وَتَعْظِيمِهَا فِي كُتُبِ التَّارِيخِ وَالْفَضَائِلِ.
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ الفَقِيهِ الهَمَدَانِيُّ: “وَفِي أَرْضِ مِصْرَ نَهْرُ النِّيلِ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ نَهْرٌ فِي الدُّنْيَا، لَا فِي دَوَامِ جَرَيَانِهِ، وَلَا فِي وَفْرَةِ خَيْرِهِ، وَلَا فِي بَرَكَةِ مَائِهِ، وَلَا فِي مَصِيرِ النَّاسِ عَلَيْهِ” البلدان”، (صـ56، ط. دار صادر).
وَقَالَ العَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ المَقْرِيزِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ – “: “فَضَّلَ اللهُ نِيلَ مِصْرَ عَلَى سَائِرِ أَنْهَارِ الدُّنْيَا، وَجَعَلَهُ حَيَاةَ النَّاسِ، وَفَصَّلَ خَيْرَهُ فِي أَرْضِهَا وَزَرْعِهَا، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ فِي كَوْنِهِ يَزِيدُ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ فِي زَمَنٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ يَنْقُصُ كَذَلِكَ” المواعظ والاعتبار، (جـ1، صـ36).
وَذَكَرَ الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي “حُسْنِ المُحَاضَرَةِ”، قَائِلًا: “وَفِي فَضْلِ مِصْرَ أَنَّ نِيلَهَا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ أَطْهَرُ مِيَاهِ الأَرْضِ، وَأَبْرَكُهَا، وَمِنْهُ أَشْرَفُ الزُّرُوعِ، وَفِيهِ تُخْزَنُ خَيْرَاتُ الأُمَمِ» حسن المحاضرة، (جـ1، صـ23).
وَفِي كِتَابِ “الفَضَائِلِ البَاهِرَةِ فِي مَحَاسِنِ مِصْرَ وَالقَاهِرَةِ” لِلإِمَامِ ابْنِ ظَهِيرَةَ: “نَهْرُ النِّيلِ شَرَفٌ لِمِصْرَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرَى آيَةً لِلَّهِ بَيِّنَةً فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَجْرَى النِّيلِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ أَرْزَاقٍ وَقُرًى وَخَيْرٍ» الفضائل الباهرة، (صـ12، ط. دار الكتب).
وقَالَ الشِّهَابُ النُّوَيْرِيُّ فِي “نِهَايَةِ الأَرَبِ”: “وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّيلِ إِلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ مِصْرَ مِنَ الرَّمْلِ إِلَى الجَنَّاتِ، وَمِنَ الْقَحْطِ إِلَى الخَيْرِ، لَكَفَى” نهاية الأرب، (جـ1، صـ89).
فَانْظُرْ – رَحِمَكَ اللهُ – كَيْفَ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُؤَرِّخُونَ فِي النِّيلِ، لَمْ يَكْتَفُوا بِذِكْرِهِ جُغْرَافِيًّا، بَلْ أَفَاضُوا فِي بَيَانِ فَضْلِهِ وَعَجَائِبِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ بَرَكَةٍ وَدَلَالَةٍ عَلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَبِذَلِكَ تَرَى أَنَّ نَهْرَ النِّيلِ – فِي نَظَرِ الْمُؤَرِّخِينَ – مِفْتَاحُ مِصْرَ، وَأَصْلُ عِمَارَتِهَا، وَقَلْبُ حَضَارَتِهَا، وَسِرُّ وُجُودِهَا وَقُوَّتِهَا.
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: دُرُوسٌ وَعِبَرٌ فِي فِقْهِ التَّعَامُلِ مَعَ نِعْمَةِ النِّيلِ
إِذَا كَانَ نَهْرُ النِّيلِ آيَةً مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَمِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَفَضْلًا إِلَهِيًّا عَمَّ مِصْرَ أَهْلَهَا وَزُوَّارَهَا، فَمَا وَاجِبُنَا تُجَاهَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ؟ وَكَيْفَ نَتَعَامَلُ مَعَهَا وَفْقَ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَفِقْهِ الْحَيَاةِ؟
أَوَّلًا: حِفْظُ النِّيلِ مِنَ التَّلَوُّثِ وَالإِهْدَارِ
إِنَّ مَاءَ النِّيلِ هُوَ رِزْقٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَسَاقَهُ اللهُ بِحِكْمَتِهِ فِي الأَرْضِ، فَمَنْ سَاوَمَ فِي إِهْدَارِهِ، أَوْ رَضِيَ بِتَلَوِيثِهِ، فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَ اللهِ وَأَفْسَدَ فِي الأَرْضِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56] فِي “تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ” (جـ7، صـ195) قَالَ: “النَّهْيُ عَنْ كُلِّ فَسَادٍ، وَمِنْ أَعْظَمِهِ: إِفْسَادُ الْمِيَاهِ وَالْهَوَاءِ، فَإِنَّهُ ضِدُّ الْإِصْلَاحِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ”
وَقَدْ شَكَا النَّبِيُّ ﷺ مِمَّنْ يَلْوِثُونَ الْمَاءَ وَيُفْسِدُونَ مَوَارِدَ النَّاسِ، قَالَ: “اتَّقُوا اللاعِنَيْنِ، قَالُوا: وَمَا اللاعِنَانِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ” رواه مسلم (269).
قال ابن القيم: فالماء مادة الحياة، كما أن الإسلام مادة حياة القلوب مفتاح دار السعادة (1/89).
فَكَيْفَ إِذًا بِمَنْ يُلْقِي فِي النِّيلِ قَاذُورَاتٍ، أَوْ نَفَايَاتٍ، أَوْ مَوَادٍّ سَامَّةٍ؟! أَفَلَا يَخْشَى دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، أَوْ سَخَطَ الجَبَّارِ؟!
ثَانِيًا: الْعَدْلُ فِي تَوْزِيعِ مِيَاهِ النِّيلِ
أيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِنَّ نَهْرَ النِّيلِ لَيْسَ مِلْكًا لِفَرْدٍ، وَلَا حَقًّا مَخْصُوصًا بِقَوْمٍ، بَلْ هُوَ نِعْمَةٌ جَمَاعِيَّةٌ، وَرِزْقٌ مُشَاعٌ، وَوَدِيعَةٌ فِي أَعْنَاقِ الْأُمَمِ، وَالْعَدْلُ فِي تَوْزِيعِ مِيَاهِهِ فَرِيضَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَأَمَانَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ، وَالْكَلَأ.، وَالنَّارِ“ رواهُ أَبُو دَاوُد (3477). صحيح.
فَكَمَا لَا يُمْلَكُ الْهَوَاءُ، لَا يُمْلَكُ الْمَاءُ، وَمَنْ مَنَعَ عَنْ أَخِيهِ مَا فَضَلَ مِنَ الْمَاءِ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِوَعِيدِ مَنْ مَنَعَ رَحْمَةَ اللهِ عَنْ عِبَادِهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: “ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ…
وَذَكَرَ مِنْهُمْ: رَجُلًا مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ، فَيَقُولُ اللهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ“ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2369) وَمُسْلِمٌ (108)].
فَلَا يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِالْمِيَاهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ يَحْبِسَهَا عَنِ الزُّرُوعِ، وَمَصَالِحِ النَّاسِ، وَلَا أَنْ يَبْنِيَ السُّدُودَ عَلَى الظُّلْمِ وَالإِضْرَارِ، فَتِلْكَ خِيَانَةٌ لِلأَمَانَةِ، وَجُرْمٌ فِي حَقِّ الإِنسَانِيَّةِ.
إِنَّ الْعَدْلَ فِي تَوْزِيعِ مِيَاهِ النِّيلِ لَيْسَ خِيَارًا سِيَاسِيًّا، بَلْ هُوَ حُكْمٌ إِلَهِيٌّ، وَحِفَاظٌ عَلَى نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمَنْ سَعَى فِي الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِحَبْسِ الْمِيَاهِ، فَقَدْ حَارَبَ الرَّحْمَةَ، وَأَوْرَثَ النَّكْبَةَ، وَاسْتَوْجَبَ الْغَضَبَ.
فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي العُقُولِ، وَارْعَوْا حَقَّ الْعِبَادِ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ مَضْمُونٌ بِشَرْعِ اللهِ وَمِيثَاقِ الأُمَمِ.
ثَالِثًا: النَّظَرُ إِلَى النِّيلِ نَظْرَةَ تَأَمُّلٍ وَشُكْرٍ
إِنَّ مَنْ يَرَى النِّيلَ وَهُوَ يَجْرِي فِي الأَرْضِ، وَيُحْيِي الزَّرْعَ، وَيَسْقِي النَّاسَ، وَلَا يَشْكُرُ اللهَ، فَقَدْ غَفَلَ عَنْ عَظِيمِ الْمِنَّةِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ الروم: 50]
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ فِي جَرَيَانِ النِّيلِ، وَكَيْفَ أَحْيَا بِهِ اللهُ مِصْرَ، وَبَنَى بِهِ الْقُرَى، وَقَامَتْ بِهِ الحَضَارَاتُ.
رَابِعًا: الدُّعَاءُ بِحِفْظِ النِّيلِ وَبَقَاءِ بَرَكَتِهِ
كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ يَرْبِطُونَ أَرْزَاقَهُمْ بِالدُّعَاءِ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا، فَاسْقِنَا” البخاري رقم الحديث1010، فَلْيَكُنْ نِيلُ مِصْرَ مَوْضِعًا لِدُعَائِنَا، أَنْ يُبَارِكَ اللهُ فِيهِ، وَيَكْفِيَ أَهْلَهُ، وَيُجْرِيَهُ كَمَا كَانَ، دَائِمًا وَهَادِئًا وَبَرَكَةً.
فَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعْمَةَ خَسِرَهَا، وَمَنْ أَهْمَلَ فِقْهَ التَّعَامُلِ مَعَهَا، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِعُقُوبَةٍ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَر، فالحمدُ للهِ الذي أَجْرَى النِّيلَ في بِلادِنا، وَسَاقَ مَاءَهُ رِزْقًا طَيِّبًا لِأَهْلِنَا، وَجَعَلَهُ آيَةً فِي الْكَوْنِ، وَشَاهِدًا عَلَى نِعْمَتِهِ فِي الأَرْضِ.
أيها المسلمون، إِنَّ نَهْرَ النِّيلِ لَيْسَ مَجْرًى مَائِيًّا فَقَطْ، بَلْ هُوَ تَارِيخٌ وَدِينٌ وَحَضَارَةٌ وَهُوِيَّةٌ، وَمِنْ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ، ضَيَّعَ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ أَجَلَّهَا، وَمِنْ الْوِرَاثَةِ أَشْرَفَهَا.
فَاتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَرَاقِبُوا سُلُوكَكُمْ فِي حِفْظِهَا، وَكُونُوا كَمَا يُرِيدُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ: شَاكِرِينَ، رَاعِينَ، نَاصِحِينَ، مُصْلِحِينَ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الأُمَّةَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ نِيلَ مِصْرَ نَهْرًا دَائِمَ الْجَرَيَانِ، مُتَجَدِّدَ الْبَرَكَاتِ، مُتَدَفِّقًا بِالرَّحْمَاتِ.
اللَّهُمَّ أَسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، هَنِيئًا مَرِيئًا، سَرِيعًا غَيْرَ ضَارٍّ، تَجْعَلُ بِهِ الْبِلَادَ خَضْرَاءَ، وَالْأَرْوَاحَ نَدِيَّةً، وَالأَبْدَانَ صَحِيَّةً.
اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ بِنِيلِ مِصْرَ شَرًّا فَاجْعَلْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ، وَاجْعَلْ تَدْمِيرَهُ فِي تَدْبِيرِهِ، وَصُنْ لَنَا أَرْضَنَا، وَمَاءَنَا، وَأَمْنَنَا، وَرِزْقَنَا.
اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي زُرُوعِنَا وَثِمَارِنَا وَأَوْلَادِنَا، وَاجْعَلْنَا لَكَ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ مِصْرَ وَأَهْلَهَا، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ، وَوَفِّقْ وُلَاةَ أَمْرِهَا، وَأَعِنْهُمْ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ.
آمين، آمين، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
المراجع:
- القرآن الكريم
- صحيح البخاري.
- صحيح مسلم، كتاب الإيمان.
- أبو داود، سنن أبي داود
- ابن كثير، البداية والنهاية، ط. دار الفكر.
- الرَّازِيُّ “مَفَاتِيحِ الغَيْبِ”
- القرطبي، “الجامع لأحكام القرآن”
- البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، (4/128).
- النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، (5/250)
- الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ، “التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ”
- النووي – المنهاج شرح صحيح مسلم
- العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري.
- السيوطي، حسن المحاضرة.
- ابن القيم، مفتاح دار السعادة
- المقريزي، المواعظ والاعتبار.
- ابن عبد الحكم، فتوح مصر.
- ابن الفقيه الهمداني، البلدان.
- ابن زولاق، فضائل مصر وأخبارها.
- الشِّهَابُ النُّوَيْرِيُّ “نِهَايَةِ الأَرَبِ”
- ” ابْنِ ظَهِيرَةَ ، “الفَضَائِلِ البَاهِرَةِ فِي مَحَاسِنِ مِصْرَ وَالقَاهِرَةِ”
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وأيضا للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
–للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وكذلك للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
-كذلك للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
وأيضا للمزيد عن مسابقات الأوقاف